فصل: المسألة الأولى: في قوله: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {إن كُنتُم} شرطٌ، جوابه مقدرٌ عند الجمهور، لا متقدم، أي: إن كنتم آمنتتم فاعلموا أنَّ حكم الخمس ما تقدَّم، أو: فاقبلوا ما أمرتم به.
وقوله: {ومَا أنزلْنَا} عطفٌ على الجلالة، فهي مجرورةُ المحلِّ، وعائدُها محذوف، وزعم بعضهم أنَّ جواب الشَّرطِ متقدم عليه، وهو قوله ف {نِعْمَ المولى} [الأنفال: 40].
وهذا لا يجوز على قواعد البصريين.
قوله: {يَوْمَ الفُرقِانِ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكُون منصوبًا بـ {أنزَلْنَا} أي: أنزلْنَاهُ في يوم بدر، الذي فُرِقَ فيه بين الحق والباطل.
الثاني: أن ينتصبَ بقوله: {آمنتُم} أي: إن كنتم آمنتم في يوم الفرقانِ، ذكره أبُو البقاءِ.
الثالث: يجوزُ أن يكون منصوبًا بـ {غَنِمْتُم}.
قال الزَّجَّاجُ: أي: ما غنمتم في يومِ الفرقان فحكمه كذا وكذا.
قال ابن عطية: وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى، ويعترضه أنَّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ، وهو ممنوعٌ أيضًا من جهةٍ أخرى أخصّ من هذه.
وذلك أنَّ ما إمَّا شرطية، كما هو رأي الفرَّاءِ، وإمَّا موصولة، فعلى الأوَّل يُؤدِّي إلى الفصل بين فعل الشَّرط، ومعموله بجملة الجزاء، ومتعلَّقاتها، وعلى الثَّاني يُؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر أنَّ.
قوله: {يَوْمَ التقى الجمعان} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ بدل من الظرف قبله.
والثاني: أنه منصوب بـ الفرقان، لأنَّه مصدرٌ، فكأنه قيل: يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي: الفرق في يوم التقاء الجمعين.
وقرأ زيد بن علي: {عَلَى عُبُدنَا} بضمتين، وهو جمع عَبْد وهذا كما قد قرئ {وَعَبَدَ الطاغوت} [المائدة: 60]، والمراد بالعُبُد في هذه القراءة هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، والمراد بـ {مَا أنزلْنَا} أي: الآيات والملائكة، والفتح في ذلك اليوم.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: يقدر على نصركم وأنتم قليلون. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
الغنيمةُ ما أخذه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظَفِروا عند المجاهدة والقتال معهم. فإذا لم يكن قتال- أو ما في معناه- فهو فَيْءٌ.
والجهاد قسمان: جهاد الظاهر مع الكفار، وجهاد الباطن مع النَّفْس والشيطان وهو الجهاد الأكبر- كما في الخبر.
وكما أن في الجهاد الأصغر غنيمةً عند الظَّفَرِ، ففي الجهاد الأكبر غنيمة، وهو يملك العبدُ نَفْسَه التي كانت في يد العدو: الهوى والشيطان. فبعد ما كانت ظواهرُه مقَرًّا للأعمال الذميمة، وباطنُه مستقرًا للأحوال الدَّنِيَّة يصير محلُّ الهوى مَسْكَنَ الرِّضا، ومَقَرُّ الشهواتِ والمُنَى مُسَلَّمًا لِمَا يَرِدُ عليه من مطالبات المولى، وتصير النَّفْسُ مُسْتَلَبةً مِنْ أَسْرِ الشهوات، والقلبُ مُخْتَطَفًا من وصف الغفلات، والرُّوحُ مُنْتَزَعَةٌ من أيدي العلاقات، والسِّرُّ مصُونًا عن الملاحظات. وتصبح غاغةُ النَّفْسِ مُنْهَزِمةً، ورياسةُ الحقوقِ بالاستجابة لله خافِقةً.
وكما أن من جملة الغنيمة سَهْمًا لله وللرسول، وهو الخُمْسُ فمما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهمٌ خالِصٌ لله؛ وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب، لا من كرائم العُقْبى، ولا من ثمرات التقريب، ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبدُ عند ذلك مُحَرَّرًا عن رِقِّ كل نصيب، خالصًا لله بالله، كما قيل:
مَنْ لم يكن بِك فانيًا عن حظِّه ** وعن الهوى والإنْس والأحبابِ

فكأنه- بين المراتب- واقِفٌ ** لمنَالِ حظٍّ أو لِحُسْنِ ثواب

. اهـ.

.تفسير الآية رقم (42):

قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيرًا لهم بذلك ردعًا عن المنازعة وردًا إلى المطاوعة فقال مبدلًا من {يوم الفرقان} {إذ أنتم} نزول {بالعدوة الدنيا} أي القربى إلى المدينة {وهم} أي المشركون نزول {بالعدوة القصوى} أي البعدى منها القريبة إلى البحر، والقياس قلب واوه ياء، وقد جاء كذلك إلا أن هذا أكثر كما كثر استصوب وقلّ استصاب، والعدوة- بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها- بأي ترتيب كان- تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعًا للعدو {والركب} أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب على الظرف قوله: {أسفل منكم} أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال- كما قال البغوي، وهو كان قصدهم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثمًا بتلك العدوة جثوم الأسد واثقًا بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صلى الله عليه وسلم لسلمة بن سلامة بن وقش- رضى الله عنهم- لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعًا، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم- جوابًا له أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب أيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعًا من الله، وما في البيضاوي تبعًا للكشاف من أن العدوة الدنيا كانت تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها تقدم رده أول السورة بأن المشهور في صحيح مسلم والسير وغيرها أن المؤمنين هم السابقون إلى الماء، وأن جميع أرض ذلك المكان كانت رملًا تسوخ فيه الأقدام، فأتى المسلمين به من المطر ما لبد لهم الأرض، وأتى المشركين منه ما لم يقدروا معه على الحركة {ولو تواعدتم} أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد {لاختلفتم في الميعاد} أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءكم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل- كما يزعم محمد- الله فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضًا في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمدًا صادق وما كذب قط، فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه {ولكن} أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولًا مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهمًا وأخرج قريشًا لحماية عيرهم إخراجًا لم يجدوا منه بدًا، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدرًا فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان- {ليقضي الله} أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعرازكم زإذلالهم: {أمرًا كان} كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام {مفعولًا} أي مقدرًا في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: {ليقضي الله} علل تلك العلة بقوله: {ليهلك} أي لعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة {من هلك} أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكًا متجاوزًا وناشئًا {عن} حالة {بينة} لما بان من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات {ويحيى من حيّ} أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشيرإليه إدغام الباقين تخفيفًا حياة متجاوزة وناشئة {عن} حالة {بينة} أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون {غر هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: {وإن الله لسميع} أي لما كنتم تقولونه وغيره {عليم} بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} وفي الآية مسائل:

.المسألة الأولى: في قوله: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا}:

قولان: أحدهما: أنه متعلق بمضمر معناه واذكروا إذ أنتم كذا وكذا، كما قال تعالى: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] والثاني: أن يكون قوله: {إِذْ} بدلًا عن يوم الفرقان.

.المسألة الثانية: [في قراءة {بِالْعُدْوَةِ}]:

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {بِالْعُدْوَةِ} بكسر العين في الحرفين.
والباقون بالضم، وهما لغتان.
قال ابن السكيت: عدوة الوادي وعدوته جانبه، والجمع عدى، وعدي.
قال الأخفش: الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك.
وقال أحمد بن يحيى: الضم في العدوة أكثر اللغتين.
وحكى صاحب الكشاف: الضم والفتح والكسر.
قال: وقرئ بهن و{بالعدية} على قلب الواو ياء، لأن بينها وبين الكسر حاجزًا غير حصين، كما في الفتية.
وأما {الحياة الدنيا} فتأنيث الأدنى وضده {القصوى} وهو تأنيث الأقصى، وكل شيء تنحى عن شيء، فقد قصا، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى.
فإن قيل: كلتاهما فعلى من باب الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟
قلنا: القياس قلب الواو ياء، كالعليا.
وأما القصوى، فقد جاء شاذًا، وأكثر استعماله على أصله.